يأتيه الموت من كل مكان
في 24 أبريل 1943، في أعالي جبال شمال النرويج، رقد رجل تحت صخرة نصفها مدفون في الثلج. تجمّدت رموشه، وأصيب بعمى ثلجي جرّاء انهيار جليدي، وتسعة من أصابع قدمه كانت في مراحل متقدمة من الغرغرينا.
كان ارتفاع الصخرة حوالي 4.5 متر وعرضها 5.4 متر، مع وجود فجوة على جانب واحد كبيرة بما يكفي لتغطية رجل. ورقد هناك لتسعة أيام كاملة.
هذا الرجل يُدعى جان بالسرود، وكان يبلغ من العمر آنذاك 25 عامًا، ويعمل كصانع أدوات رسم خرائط. وكان ذلك بعد هروبه من الاحتلال النازي للنرويج في عام 1940، بعد أن عاد لتوه مع 11 شخصًا كجزء من فريق تخريب مكلّف بتدمير التحصينات الألمانية.
لسوء الحظ، سارت المهمة على نحو خاطئ بشكل كارثي، والآن بالسرود، الناجي الوحيد، يبذل جهودًا يائسة للهروب.
كان مستلقيًا هناك، متجمدًا ووحيدًا، معرضًا للثلوج الدافعة ودرجات الحرارة دون الصفر في شتاء نرويجي طويل.
كان الموت يأتيه من كل مكان: من المحتلين النازيين الذين سبق لهم أن عذبوا وقتلوا بقية أعضاء فريقه، ومن الغرغرينا التي تتفشّى في قدميه، ومن الجوع وانخفاض درجة الحرارة والإرهاق.
اقرأ أيضًا: ما هو مرض الفطر الأسود أو العفن الأسود
لكنه لسبب ما لم يمت. وفي وقت ما من ذلك اليوم، عثرت مجموعة من النرويجيين المحليين من شبكة مقاومة تحت الأرض على بالسرود. وهم كانوا قد أمضوا الأسبوع الماضي في البحث عنه. وسحبوه على زلاجة باتجاه الحدود السويدية.
هذا مجرد مثال واحد على شجاعة العشرات من النرويجيين العاديين، الذين لولاهم لما تمكن بالسرود المنهك والهزيل من الهروب.
كيف بدأت القصة؟
قبل ذلك وفي 23 مارس 1943، غادر قارب صيد يحمل ثمانية من أفراد الطاقم وأربعة ركاب جزر شتلاند وتوجه إلى المضائق البحرية في شمال السويد.
ورسى القارب في جزيرة ريبينيسويا الصغيرة، على بعد حوالي 30 ميلًا شمال مدينة ترومسو الساحلية الاستراتيجية، الرجال الـ 12 الذين كانوا على متنها هم جزء من شركة لينج.
وهم مواطنون نرويجيون دربتهم SAS البريطانية في اسكتلندا في عملية تعرف باسم مارتين ريد وكانوا يحملون ثمانية أطنان من المتفجرات بهدف تدمير الأصول الألمانية.
خطأ كارثي
عندما رسوا في ريبينيسويا، اقتربوا من متجر عام صغير، كان مالكه مُدرجًا في قائمة أسماء الأشخاص الذين تعتقد الشركة أنهم متعاطفون مع قضيتهم.
بشكل كارثي، كانت القائمة قديمة! فصاحب المتجر كان قد توفي قبل ستة أشهر، والرجل الذي تولّى عمله كان – بشكل غير معتاد بالنسبة للنرويجي – من المتعاطفين مع النازية.
عندما أيقظه ثلاثة من المخربين في منتصف الليل، وأخبروه أنهم قدموا من إنجلترا وسألوه عمّا إذا كان بإمكانهم استئجار قارب لنقلهم إلى ترومسو ، تصاعدت شكوكه.
لذلك وبعد مغادرتهم، أجرى مكالمة هاتفية مع صديقه، وهو مسؤول نازي محلي.
في صباح اليوم التالي ، تحركت سفينة تابعة للبحرية الألمانية إلى الخليج ورست هناك. عرف رجال عملية مارتن أنهم كانوا في ورطة. لقد فاقوهم في العدد والعتاد. وكان خيارهم الوحيد هو تفجير المتفجرات المخزنة في عنبر السفينة، وتدمير جميع الأدلة على مهمتهم.
كانوا مستعدين لمثل هذا الاحتمال. عندما فتحت السفينة الألمانية النار، أشعل أحدهم فتيلًا مدته 30 ثانية وقفزوا جميعًا في الماء. ووقتها فقد جان بالسرود حذاءه لأنه كان في عجلة من أمره.
عندما انفجرت السفينة من خلفهم، لم يكن أمام الرجال خيار سوى الذهاب إلى الشاطئ، حيث كان النازيون ينتظرون. لم يحظوا بفرصة. تم إطلاق النار على أحدهم في الموقع ؛ و 10 منهم تم أسرهم واستجوابهم وتعذيبهم وإعدامهم بعد أيام في ترومسو.
لكن جان بالسرود نجا بعد أن اختبأ خلف صخرة بينما تم أسر البقية. عندما اقترب منه الجنود الألمان، أطلق النار على اثنين، ثم ركض إلى أعلى التل الثلجي، وهو لا يزال يرتدي فردة حذاء واحدة. في هذه العملية، تلقى رصاصة في إصبع قدمه.
مع استمرار الجنود في مطاردته، غطس مرة أخرى في الماء (والذي بالمناسبة كان مالحًا، وأقل من درجة التجمد بعدة درجات) وبدأ في السباحة. سبح من ريبينيسويا إلى الجزيرة التالية، حيث عثرت عليه فتاتان في قارب صيد. وأعادتاه إلى منزلهما، وأعطته والدتهما ملابس جافة وزوجًا جديدًا من الأحذية.
قصة الهروب والنجاة
هكذا بدأ هروب جان بالسرود إلى السويد المحايدة واستمر لمدة شهرين. وكان بالسرود حريصًا دائمًا على الإشارة إلى المساعدة التي تلقاها من النرويجيين العاديين، الذين أصبح لهم بطلاً شعبيًا.
من بين الذين نعرفهم: كانت هناك قابلة عرضت عليه التنكر في صورة امرأة أثناء المخاض وإخفاءه في منزلها. (لم يقبل العرض). وكانت هناك فتاة غسلت وضمّدت أقدام بالسرود المكسورة بالصقيع.
كان هناك صياد أهدى بالسرود زوجًا من الزحافات. وذلك الأب، الذي كان لا يزال في حالة حداد على فقدان ابنه الصغير، ولم يُثنيه ذلك عن التجديف في زورق عبر المياه الصخرية في منتصف الليل، متجنبًا الحراس الألمان، لإيداعه على شاطئ آخر.
أثناء تسلق جبل جيجيفار الذي يبلغ ارتفاعه 914 متر، أحاطت به عاصفة ثلجية. ثم تبعها انهيار جليدي. سقط على عمق 90 مترًا في الوادي، ودمّر زلاجته وفقد عصاه وحقيبة يده.
استيقظ وهو لا يزال مغمورًا بالثلج وقضى ثلاثة أيام يتجول في الوادي، وهو يهذي ويسمع أصوات الرجال من عملية مارتن التي تركها وراءه.
في اليوم الرابع، وصل إلى قرية صغيرة تسمى فوروفلاتين، وسقط مغشيًا عليه داخل مزرعة. لحسن الحظ كان ذلك بيت أخت ماريوس جرونفول، وهو عضو نشط في المقاومة.
خبأت عائلة جرونفول بالسرود في حظيرتها لمدة أربعة أيام وأنقذت حياته. مع أنّ جنديان ألمانيان قد فتشا الحظيرة مرة واحدة ولكنهما خرجا قبل أن يفحصا الدور العلوي حيث كان يختبئ بالسرود خلف سرير من القش.
لكن قضمة الصقيع كانت سيئة للغاية لدرجة أن بالسرود لم يستطع المشي بمفرده. لذا قام ماريوس بتجنيد ثلاثة آخرين للمساعدة في حمله على نقالة بعيدًا عن الألمان والتجديف به عبر المضيق البحري، في رحلة صيد وهمية.
كان سفح الجبل شديد الانحدار بحيث لا يمكن حمل نقالة لأعلى، لذلك أخفوا بالسرود في سقيفة صغيرة، وفي فوروفلاتن أقنع ماريوس مدرسًا محليًا ونجارًا بصنع مزلقة.
كانت مساحة السقيفة التي رقد فيها بالسرود وحده حوالي مترين في ثلاثة أمتار. خلال ذلك الوقت، أخذ بالسرود سكينًا وبتر العديد من أصابع قدميه، في محاولة لإبطاء انتشار الغرغرينا في ساقيه.
عندما عاد ماريوس وأصدقاؤه مع المزلقة، جرّوا جان بلسرود إلى سفح الجبل وتركوه تحت تلك الصخرة التي سبق لنا أن تحدّثنا عنها في بداية القصة.
فشلت المجموعة التالية من المساعدين الذين كان من المفترض أن يأتوا ويواصلوا رحلته في تحديد موقع الحَجر لمدة تسعة أيام. ولكن عندما وصلوا، نقلوه إلى كهف، حيث أمضى 17 يومًا أخرى، وبتر بقية أصابع قدميه.
أخيرًا، قامت مجموعة من قبائل السامي، السكان الأصليين للنرويج، بربط المزلقة بفريق من حيوانات الرنة. عبر أحد أركان فنلندا المتحالفة مع النازية، عبر بحيرة متجمدة إلى السويد المحايدة، ليسبقوا المسلحين النازيين.
النجاة والعودة إلى حياة العميل السري
من ساريكوسكي في شمال فنلندا، تم نقل جان بالسرود بواسطة طائرة مائية تابعة للصليب الأحمر وتم نقله جوًا إلى بودن.
أمضى سبعة أشهر في مستشفى سويدي هناك قبل نقله إلى اسكتلندا للمساعدة في تدريب الوطنيين النرويجيين الآخرين، الذين كانوا في طريقهم إلى النرويج لمواصلة القتال ضد الألمان.
بعد استعادة قدرته على المشي، عاد هو نفسه إلى النرويج كعميل سري، وبقي هناك حتى نهاية الحرب.
توفي في عام 1988، عن عمر يناهز 71 عامًا، ودُفن رماده في ماندالين، في قبر مشترك مع “أسلاك أسلاكسن فوسفول”، وهو أحد الرجال المحليين الذين ساعدوه على الهروب إلى السويد.
تابع صفحتنا على الفيسبوك، وحسابنا على تويتر ليصلك كل جديد!
